لماذا يُتهم علي عبدالرازق بتمهيد الطريق للإخوان المسلمين؟

لماذا يُتهم علي عبدالرازق بتمهيد الطريق للإخوان المسلمين؟


05/11/2018

في الربع الأول من القرن العشرين، كان الفكر التقليدي يهيمن هيمنة شبه كليّة على المجتمع المصري ويعتبر نفسه المعبّر الأمين عن تجربته التاريخية؛ لذا كان على أي محاولةٍ للتغيير أن تسلك طريقاً من اثنتين: الصدام مع الوعي الجمعي ذي الصبغة الدينية، أو إدخال الأفكار الجديدة تحت ثوب الفكر القديم؛ تجنّباً للسخط العام وضماناً لرسوخ التأثير.

وعلى هذا الأساس جرت المحاولة الكبرى للشيخ علي عبدالرازق (1888 - 1966) في تمرير العلمانية تحت غطاء الإسلام عبر كتابه الإسلام وأصول الحكم 1925 الذي أعاد فيه قراءة جوانب من تاريخ الممارسة السياسيّة الإسلاميّة بعدسات علمانيّة ولغة سلفيّة وعلى ضوء الصراع الدائر حول علاقة الديني بالسياسي.

اقرأ أيضاً: خطايا الإسلام السياسي المتولدة عن "الصحوة الإسلامية"

ولأنّ طبيعة السلطة السياسية العربية لم تُحسم، والدولة متأرجحة بين الخضوع للديني وبين إخضاعه وتوظيفه، فإنّ علاقة الديني بالسياسي ستظلّ محلاً لجدلٍ سياسي وفكري عاصف. ومركزية المسألة السياسية داخل الثقافة العربية، التي لم تتحرر يوماً من ضغط السياسي، هي التي جعلت من مسألة العلمانيّة أكثر المسائل جدلاً في التاريخ العربي الحديث، فمنذ أواخر القرن التاسع عشر انطلقت معالجات عربية لموضوع العلمانيّة، وينتمي نص الشيخ إليها بصورة مباشرة، كنص تجاوب مع واقعة سياسية محددة هي لحظة إسقاط الخلافة العثمانيّة في تركيا والجدل الدائر بشأن ذلك في مصر.

غلاف كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لـ علي عبدالرزاق

الإلهام التركي

تأثر علي عبدالرازق بالمناخ السياسي المشحون والمنقسم حول العلمانيّة، وكان الحدث الأكثر أهميّة في هذا السياق هو إلغاء مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلاميّة والجدل المثير الذي رافق موقفه الراديكالي؛ حيث ألغى الخلافة كليّةً وأقام جمهوريّة علمانيّة بالكامل على أنقاضها؛ فالنخبة المثقفة المصرية انقسمت تلقائيّاً حول الحدث وفقاً لمواقعها الفكريّة والسياسيّة.

اتهم المفكر عبدالله العروي الشيخ علي عبد الرازق بـ"الانتهازيّة" وبأنه مهّد الطريق لحركة الإخوان المسلمين

ولم يكن إلغاء الخلافة حدثاً عابراً أفرزته الظروف السياسيّة التي مرت بها تركيا، بل كان إجراء حاسماً ضمن مجموعة من الإجراءات الإستراتيجيّة التي تشكل في مجملها روح الثورة الكماليّة؛ فقد ألغى أتاتورك السلطنة عام 1922، وفي 1923 أعلن الجمهورية، وعام 1924 ألغى الخلافة ومنصب شيخ الإسلام ووزارة الشريعة والمدارس الدينيّة، وفي عام 1926 أصدر قانوناً جديداً للأحوال الشخصية مؤسساً على القانون السويسري، وأخيراً استبدل الحرف اللاتيني بالعربي.

وأحدثت الإجراءات الثورية التي أقدم عليها أتاتورك هزة عنيفة في أعماق الوعي المسلم، وفي الوقت الذي أعرب فيه المثقفون العلمانيون عن ترحيبهم بإزالة هذا الركام التاريخي الجاثم على صدر الأمة والذي شكّل عقبةً في وجه تطورها السياسي، ظهرت عدة جمعيات في مصر عام 1924 تدعو إلى مؤتمر للخلافة وأبرزها جمعية "الخلافة" التي رشحت الملك فؤاد لمنصب خليفة المسلمين.

اقرأ أيضاً: "الإخوان" وأحلام حكم العالم باسم "الخلافة"

فيما دافع قطبا العلمانيّة المصريّة أحمد لطفي السيّد وسلامة موسى عن الخيار الكمالي بحماسة، وأعربا عن إعجابهما بالانقطاع التاريخي الذي أحدثه أتاتورك، وتغنى موسى بعصرية أتاتورك وتحضرّه وبثوريته التي لم يسبق لها مثيل في سرعتها وإنجازها تغييراً محوريّاً في نظامي الحكومة والمجتمع.

 

 

 

 

أما الشيخ علي فقد اتخذ الموقف السياسي لحزبه (الأحرار الدستوريين) وهو حزب نخبوي طّور منظوراً علمانيّاً للسياسة، والذي رأى في إسقاط الخلافة فرصة ذهبية لتجاوز أبعادها الرجعية، على رمزيتها، في السياسة المصرية.

بغطاءٍ إسلاميّ

يمكن تأطير نص الشيخ الإسلام وأصول الحكم كتنظير سياسي (توسل المنهج السلفي) للثورة المنجزة في تركيا، فقد برهن عبدالرازق تاريخيّاً على أنَّ ممارسة السلطة فعل بشري محكومٌ بجدليّة الخطأ والصواب، ومعرّض للتجديد والتغيير والتطوير، وانتهى إلى أنَّ "الخلافة ليست من الخطط الدينيّة، ولا القضاء كذلك، ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما كلها خطط سياسيّة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرّفها ولم ينكرها، وإنما تركها للرجوع إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة".

اقرأ أيضاً: تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم

ونصه يستلهم الروح العامة للكماليّة ويعكس، في الآن نفسه، سعيّاً نظريّاً لدعم الاختبار العلماني المطروح على جدول أعمال الصراع السياسي آنذاك، ولما يزل.

لغة عبدالرازق الدينية نفسها هي التي أشعرت الأصوليين بالخطر الداهم كونها تنازعهم على ساحاتهم الفكرية

وتكمن المفارقة التي أُنتج بها نصٌ من هذا النوع كما يشير كمال عبداللطيف في كتابه التأويل والمفارقة: نحو تأصيل الحداثة السياسيّة في أنَّ ظرفيّتة الإسلام وأصول الحكم التي تفيد في التأريخ له لا تمنعه من تجاوز معطيات ظرفه السياسي ليصل إلى مستوى التنظير السياسي للخلافة الإسلاميّة من زاوية الدفاع عن العلمانيّة؛ أي الدفاع عن دنيويّة الممارسة السياسيّة في الإسلام.

ويمكن قراءة الكتاب قراءة مزدوجة: أولاً، كمساهمة مبكّرة في العالم المسلم متمشيّة مع النقد ما بعد الأنواري (نسبةً إلى فلسفة الأنوار الأوروبيّة) للسلطة ذات التبرير الديني، أُنجزت ضمن إطار المخيّال الاجتماعي الحديث، بهدف تمرير مشروع العلمانيّة كسمة أساسيّة للعقلانيّة السياسيّة الحديثة التي تفرّق، وبشكل جوهري، بين الزمني والديني، ومن ثّم تُقرِّب إمكانيّة تحقق الحريات الدينيّة والحفاظ على حقوق الأقليات وضمان الوعد بالمساواة المدنيّة والسياسيّة بين المواطنين كافة.

غلاف كتاب "التأويل والمفارقة" لـ كمال عبداللطيف

وثانياً، كترسيخ لمبدأ استعمال المنهج السلفي لحل مشكلات الحاضر، وبالتحديد مشكلة السلطة المعاصرة، بهدف ضمان إنجاز إصلاح سياسي فرضه الحاضر عبر اللجوء إلى الماضي والانتقاء من معطياته التي توافق التوجه السياسي الذي يحمله الشيخ.

برهن عبدالرازق تاريخيّاً على أنَّ ممارسة السلطة فعل بشري محكومٌ بجدليّة الخطأ والصواب، ومعرّض للتجديد والتغيير والتطوير

هذه اللغة الدينية هي التي دفعت المفكر العربي عبدالله العروي أن يصف، في كتابه "العرب والفكر التاريخي"، محاولة عبدالرازق بـ"الانتهازيّة" وأنها هي التي مهّدت الطريق لحركة الإخوان المسلمين بالانتقاء من معطيات التاريخ ما يوافق توجهها السياسي؛ وموقف العروي يتعلق بنظرته إلى الذهنيّة العلميّة التي ينبغي أن تسود المجتمعات العربيّة؛ لأنَّ غيابها واستمرار اللجوء إلى التراث يمنعان من فهم إنجازات العصر الحديث، وبانعدام ذلك الفهم تنعدم إمكانيّات الإنجاز الفعلي، إلا أنّ العروي يسقط من حساباته الفكرية المسافة التي قطعها الفكر العربي خلال نصف قرن، وهي الفترة التي تفصل ما بين إنتاج نصيْ عبدالرازق والعروي.

لكنّ لغة عبدالرازق الدينية نفسها هي التي أشعرت الأصوليين بالخطر الداهم؛ كونها تنازعهم على ساحاتهم الفكرية، وهو ما دفع الأزهر إلى محاكمته ودفع التيار الأصولي إلى معاداته. ورغم بروز البريق الفخم لتيار الإسلام الحضاري في الثمانينيات، فإنّ علي عبد الرازق لم يزل على رأس المطلوب إسكاتهم، وهو ما تؤكده مقولة المفكر الإسلامي الحضاري سيف عبد الفتاح: "كان (علي عبد الرازق) يمهّد السبيل - بمعاول هدمٍ لرابطة مصر الإسلاميّة- من خلال تأصيل شرعي الشكل لنبذ الخلافة والأساس الديني لقيام الدول".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية