ما فعله الاحتلال العثماني بلبنان

ما فعله الاحتلال العثماني بلبنان


17/08/2020

وليد فكري

يقول المثل "إن لم تستحِ فافعل ما شئت".. كان هذا أول ما قفز لذهني عندما قرأت ما كتب أحمد منصور- الصحفي بقناة الجزيرة القطرية بعد فاجعة انفجار ميناء بيروت.

ففي الوقت الذي كنا جميعا نبكي فيه ما أصاب أشقاءنا اللبنانيين من كارثة موجعة، استغل منصور الحدث ليخدم سادته من العثمانيين الجدد بتغريدة تفاخر فيها بأن صوامع الغلال الخرسانية قد صمدت أمام الانفجار العنيف مدعيا أنها من بناء العثمانيين عندما كانوا يحكمون لبنان، ومستنكرا وصف الحكم التركي بالاحتلال.

وإذ تعرض منصور إثر تلك التغريدة لموجة من الاستنكار والاستهجان والفضح لكذبته الرخيصة، وكشف أن تلك الصوامع إنما بُنـيَت بين عاما 1968م و1970م، سارع بحذف تغريدته المشينة، وإن لم تُحذَف من الأذهان دلالاتها من حرص غلمان العثمانيين الجدد على إرضاء سادتهم ولو بمحاولة تزييف التاريخ.

تعالوا نلقي نظرة سريعة على ما فعله العثمانيون بلبنان الشقيق..

سياسة فرق تسد
من البداية انتهج الاحتلال العثماني سياسة "فرق تسد" حيث عمل العثمانيون على ضرب فئات اللبنانيين وزعاماتهم المحلية ببعضهم بعضاً..

فعندما بلغ سليم الأول بجيشه لبنان ووضعه تحت الحكم العثماني، عمل على تقسيمه إداريا بحيث يكون على رأس مدنه الكبرى باشوات عثمانيون وعلى رأس مناطقه الريفية والجبلية أمراء محليون..

لم تكن تلك بمشكلة، وإنما كانت سياسة العثمانيين القائمة على ضرب الزعامات المحلية ببعضها بعضاً.. لماذا؟

ببساطة لأن المحتل العثماني كان يخشى من تعاظم قوة بعض هؤلاء الزعماء بحيث تحدثهم أنفسهم بالاستقلال عن السلطنة.. فكان أن حرص على تطبيق المبدأ الاستعماري الروماني القديم "فرق تسد" ليضمن انهماك زعماء وأمراء لبنان في الاقتتال ليتسنى له حكم بلادهم وحلب خيراتها كما يشاء..

فكان يعين الأمراء على مناطق النفوذ ويمدهم بالصلاحيات ويراقبهم من خلال باشوات ولايات صيدا وطرابلس ودمشق وعكا.. حتى إذا ما استشعر تعاظم نفوذ  أحد هؤلاء الأمراء أو ارتفاع شعبيته أمر بعض الباشوات بمحاربته والقضاء عليه سواء بتجريد حملة عسكرية ضده أو الإيعاز لبعض الخونة باغتياله، والخيانة - كما يؤكد التاريخ - هي سلاح العثماني المفضل!

وبينما يفترض بالسلطة العليا أن يكون شاغلها هو مدى كفاءة حكام الأقاليم في خدمة بلادهم ورعاية مصالح رعاياهم، لم يلتفت العثمانيون لأي من ذلك وكان لهم همان لا ثالث لهما: الأول هو تحصيل الضرائب والمكوس والخيرات المادية والعينية بل حتى الرشى للباب العالي ورجاله، والهم الآخر هو الطاعة العمياء من الزعيم المحلي حتى وإن تعارضت أوامر الباب العالي له مع مصلحة الرعية أو مع قيم الحق والعدل.

هكذا كان تعامل العثمانيين مع الزعماء المحليين وعلى رأسهم الأمراء من الأسرة المعنية أمثال فخر الدين وقرقماز، أو من خلفائهم الشهابيين كالأمير بشير وغيره.

وهو ما انعكس على السلم الأهلي اللبناني من دخوله في دوامة لا قرار لها من الاقتتال الأهلي وصراعات البيوتات والتي تطورت بدورها لصراعات طائفية بين المسلمين والدروز والمسيحيين، بل وبين أبناء الدين الواحد من مذاهب مختلفة.. فالصراع يبدأ عشائريا ثم سرعان ما يتحول إلى اقتتال ديني أو طائفي يبلغ حد تبادل ارتكاب المذابح المروعة.

فتح باب التدخل الأجنبي

في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني أبرم العثمانيون اتفاقية للامتيازات الأجنبية مع فرنسا مُنِحَ الرعايا الفرنسيون بموجبها امتيازات وحصانات في مواجهة السلطة القضائية العثمانية.. ثم بعدها بسنوات أضيفت للاتفاقية بنود تعطي فرنسا حق حماية الكاثوليك من رعايا الدولة العثمانية.. أي أن العثمانيين قد تنازلوا طواعية عن الحقوق القانونية الطبيعية لأي سلطة حاكمة في مواجهة فئة من مواطنيها!.

كانت الامتيازات الأجنبية بمثابة "باب الشيطان" الذي فتحه العثمانيون طواعية.. فسرعان ما استغلت فرنسا هذه الفرصة لتتدخل في الشأن الداخلي من خلال وصايتها المزعومة خاصة في لبنان.. وتبعتها روسيا في محاولتها التدخل من خلال ادعاء الوصاية على الرعايا الأرثوذوكس، أما إنجلترا فقد حاولت اللحاق بسباق التدخل الأجنبي من خلال الوصاية على الدروز.

وما زاد الطين بلة أن الفساد والظلم العثمانيين تسببا في التجاء بعض الرعايا لطلب حماية هذه الدول - خاصة فرنسا - وهو بالطبع واقع تاريخي مشين لهؤلاء ولكنه لم يكن ليتم من دون سماح العثمانيين به.

هل توقفت الجريمة العثمانية عند هذا الحد؟ أسارع بالإجابة بالنفي، فالعثمانيون قد زادوا من القصيدة بيتا فسمحوا بشكل صريح للبريطانيين بالتدخل في الشأن اللبناني، سواء بالاتفاق على قيام بريطانيا بدور مخابراتي لإثارة اللبنانيين ضد حكم محمد علي باشا للشام، خلال فترة حروبه مع الدولة العثمانية، أو سماحها للأسطول البريطاني خلال تلك الحرب بقصف بيروت لإجبار الجيش المصري على الانسحاب منها، أو بسماحها بعد ذلك بعقود بقيام فرنسا بإنزال بحري في بيروت بحجة حماية المسيحيين.

ولم تتوقف الخيبة العثمانية عند هذا الحد بل تجاوزتها لدرجة خضوع العثمانيين لرغبات - أو لنقل لأوامر- الدول الاستعمارية بشأن كيفية إدارة لبنان وحل مشكلاته الطائفية الطاحنة التي تسبب فيها المحتل العثماني بسياساته الخرقاء المدمرة والتي أدت في النهاية لوقوعه تحت الاحتلال الفرنسي وفقا لاتفاقية سايكس بيكو بين العملاقين الاستعماريين الفرنسي والبريطاني.

ختاما

ألا يكفي هذا التاريخ الأسود للاحتلال العثماني في لبنان الشقيق ليستحي غلمان العثمانيين الجدد من ممارسة ما يعف لساني عن كتابة وصفه الحقيقي على هذه المنصة المهذبة واكتفائي بوصفه بـ"التطبيل" للعثمانيين الجدد ومطامعهم في المنطقة؟ ألا يستحون من إغفال تاريخ مشين من إثارة الفتن وإشعال الاقتتال وزرع وتغذية الطائفية على مر قرون، فيتجاهلون كل ذلك ويحدثوننا عن الصوامع؟ أم أن حمرة الخجل لم تعد متوفرة أمام أعينهم الواقعة تحت غشاوة حمرة علم الاحتلال العثماني الذي يتشحون به وهم يرقصون على أنغام أبواق ساداتهم من العثمانيين الجدد؟..

حقا.. إلا الحماقة أعيت من يداويها!

عن "سكاي نيوز عربية"

الصفحة الرئيسية