مقاتلو داعش الأجانب: هل يمكن حل المشكلة قبل فهمها؟

داعش

مقاتلو داعش الأجانب: هل يمكن حل المشكلة قبل فهمها؟


16/10/2019

تحتلّ مسألة المقاتلين الأجانب  (Foreign fighters) في تنظيم داعش مكانة ذات أهمية من الناحية السياسية والإستراتيجية، فيما يتعلق بالتهديد الذي مثّله هؤلاء المقاتلون الآتون إلى الشرق الأوسط، من بيئات اجتماعية وخلفيات دينية وأوضاع اقتصادية متباينة، للانضمام في حروب التنظيم الذي أعلن الخلافة في حزيران (يونيو) ٢٠١٤، ورغم الاعتقاد الشائع بانتهائه على يد قوات التحالف، إلا أنّ خطر التهديد من قبله ما يزال قائماً، لا سيما فيما يتعلق بعملياته الإرهابية الخارجية في بلدان أوروبية.

اجتذب ظهور تنظيم داعش العام ٢٠١٤ سيلاً من المجاهدين الأجانب الذين تحدروا من كافة بلدان العالم

ففي ٢٠١٧، وفق مسح قام به مركز بيوPew Research Center" "؛ فإنّ المخاوف التي يثيرها تهديد تنظيم داعش احتلت المرتبة الأولى، متجاوزة بذلك قضايا أخرى عالمية، مثل؛ التغير المناخي والبيئي، بالتالي؛ يغدو الحديث عن القضاء على "داعش" أمراً ينبغي التثبت منه، خصوصاً أنّ التنظيم، المكوَّن من بضعة آلاف من المقاتلين، يغيّر إستراتيجيات حروبه على الدوام؛ فرغم إنهاكه وإضعافه بشكل كبير في سوريا والعراق، إلا أنّ هناك توجهاً للتنظيم للحروب الخارجية في بلدان أوروبية، كما شاهدنا منذ ٢٠١٥ وحتى يومنا هذا.
والحال؛ أنّ المقاتلين الأجانب في تنظيم داعش كانوا محطّ اهتمام غربي وعربي واسع؛ لأنّ الأعداد الوافدة إلى التنظيم مثّلت فزعاً كبيراً، وحوّلت سوريا إلى جبهة لهذا التوافد، مما ضاعف من خطورة التنظيم، الذي اجتذب شرائح من كلّ حدب وصوب، وكان هذا القلق العالمي عموماً مرتبطاً بمسألتين: الأولى؛ مسألة متعلقة بفهم "جاذبية" تنظيم داعش؛ أي ما الجاذبية التي تجعل شباباً ونساء، عرباً وأوروبيين وآسيويين، ينضمون إليه.

اقرأ أيضاً: هل يحاكم العراق معتقلي داعش الأجانب على أراضيه؟
أما المسألة الثانية فمتعلقة بالخطر الذي سينجم عن ذلك، لا سيما أنّ المقاتلين الأجانب خرجوا من بيئات تدّعي دوماً أنّها قائمة على الحرية والفردانية وقيم الحداثة السياسية، ومن ثم؛ ما هي السبل الإستراتيجية المتعلقة بمكافحة التنظيم عموماً، والتعاطي مع هؤلاء المقاتلين "الأجانب" خصوصاً، هذا من ناحية.

يميل الباحثون عادة إلى تكريس الحرب الأفغانية باعتبارها اللحظة الأولى لبزوغ مصطلح المقاتلين الأجانب
ومن ناحية أخرى؛ فعشية الألفية والانسحاب الأمريكي من العراق، كانت هناك وجهة نظر أمريكية بأنّ ظاهرة المقاتلين الأجانب قد أخذت في التلاشي؛ ففي أثناء حرب العراق ٢٠٠٣ وبعدها، كان هناك ما يقارب عشرة آلاف مقاتل أجنبي، انتهى الحال بهذا العدد في ٢٠٠٨ إلى وصوله إلى حدود الألفين أو الثلاثة آلاف على أقصى تقدير.
بيد أنّ الثورة السورية، التي بدأت سلمية في بداية العام ٢٠١١، على نظير أخواتها في الشرق الأوسط بمصر وتونس وغيرهما، كانت بمثابة الانفتاح الجديد لظاهرة المقاتلين الأجانب، بعد عسكرة الصراع في سوريا على يد النظام والحركات الإسلاموية الراديكالية، ووصل العدد تقريباً إلى ثلاثين ألف مقاتل أجنبي، وفق تشارلز ليستر، في آب (أغسطس) ٢٠١٥، وفي إحصائية أخرى؛ وصل العدد إلى 40 ألفاً من ١٢٠ دولة عالمياً.

اقرأ أيضاً: خطر الإرهاب وعودة المقاتلين الأجانب يتصدر المشهد.. كيف يمكن مواجهته؟
فقد اجتذب ظهور تنظيم داعش، العام ٢٠١٤، سيلاً من المجاهدين الأجانب الذين تحدروا من كافة بلدان العالم، إلى مركزي التنظيم الأساسيين: أي سوريا والعراق، وكان هذا الإحياء لظاهرة قديمة-جديدة، هي "المقاتلون الأجانب"، مترافقاً مع نمط جديد مع العلاقات الاجتماعية في البيئة التي هاجروا إليها.

هناك اختلاف وتضارب في حقل "الدراسات الأمنية" وما يسمى "علوم الإرهاب" في تعريف المقاتل الأجنبي

واللافت في مسألة المقاتلين الأجانب؛ أنّها ظاهرة غير مقتصرة على المقاتلين الأوروبيين، أو غير العرب عموماً، بل كان هناك توافد عربي للصراع بأعداد كبيرة، يمكن الإشارة إلى ثلاث دولة هي الأكثر عدداً على التوالي: تونس (٣٠٠٠ مقاتل)، المملكة العربية السعودية (٢٥٠٠ مقاتل)، الأردن (٢٠٠٠ مقاتل)، وفق دراسة تشارلز ستيلر المنشورة بمركز بروكنغز، والمعنونة بـ "المقاتلون الأجانب العائدون: تجريمهم أم إعادة إدماجهم؟".
كلّ ذلك إنما يشير إلى الأهمية التي تحظى بها مسألة المقاتلين الأجانب عالمياً، لما تشكّله من خطر أمني وإستراتيجي على الدول، وأيضاً للبحث في سبل الحلّ التي يمكن أن تقلّل من خطر التطرف والحدّ من هذه الظاهرة، وللدواعي التي تدعو أفراداً في دول أخرى للمشاركة في حروب قائمة بدول غير دولهم، على أسس أيديولوجية أو دينية.
فكما توضح دراسة للمركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي؛ فإنّ "حقيقة وجود أعداد كبيرة من الأجانب داعمة للتنظيم في العراق وسوريا، عسكرياً أو بطرق أخرى، هو شيء يرعب غير المؤيدين تقريباً بالقدر نفسه الذي يضايق به الحكومات التي تحاول جاهدة دحرها؛ لأنّه من المعروف أنّ الأجانب شاركوا بانتظام في الحروب البعيدة في الماضي، جذبت الأزمات في العراق وسوريا أعداداً ضخمة لم نشهدها من قبل [...]، ورغم الجهود الكبيرة المبذولة لتحديد احتمال سفر شخص ما يعيش في المملكة المتحدة مثلاً، للانضمام إلى الجهاديين في سوريا والعراق، لم يبذل جهداً يُذكر في أيّ بحث حديث لدراسة العوامل التي أدّت إلى اختياره هذه الطريق، ويمتدّ هذا النقص في البحث ليشمل البروباغندا".

يبدو أنّ الحديث عن القضاء على تنظيم داعش أمر ينبغي التثبت منه

ظاهرة قديمة وتشكّل جديد
في الواقع، هناك اختلاف وتضارب في حقل "الدراسات الأمنية"، وما يسمى "علوم الإرهاب" في تعريف المقاتل الأجنبي، لكن، ودون الدخول في تفصيلات أكاديمية بخصوص التعريف، يمكننا القول إنّ المقاتل الأجنبي هو كلّ شخص ينخرط في حرب أو نزاع في محلّ ليس هو بلده، ولا علاقة قربى تربطه بأطراف المنضمّ إليهم، ولا ينتسب إلى أيّة منظمة عسكرية رسمية.

اقرأ أيضاً: اعترافات تكشف مسار الجهاديين الأجانب من التجنيد إلى القتال
وعليه؛ فالمقاتل الأجنبي هو شخص مختلف عن المرتزق، وفق باحثين لم يعدّوا المرتزق مقاتلاً أجنبياً، إلا أنّ الفرق بين المقاتل الأجنبي والمرتزق سينتهي، والذي كان سائداً منذ الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، مع تنظيم داعش، الذي جنّد مقاتلين أجانب من أعراق كثيرة وبلدان متعددة، وكان يدفع لهم رواتب ثابتة تتراوح بين ٢٠٠ دولار إلى ٥٠ دولاراً شهرياً، كما في دراسة ماجا غرينوود من جامعة كوبنهاغن، تحت عنوان "المقاتلون الأجانب في تنظيم داعش والقاعدة".

رغم أهمية المنظور الديني فيما يتعلق بظاهرة المقاتلين الأجانب إلا أنّه جزء لا يمكن أن يفسّرها

يميل الباحثون عادة إلى تكريس الحرب الأفغانية (١٩٧٩ وما بعدها) باعتبارها اللحظة الأولى لبزوغ مصطلح "المقاتلين الأجانب"؛ حيث توافد كثير من المقاتلين للحرب ضدّ السوفييت، مما سيجعل من المصطلح لاحقاً مصطلحاً مكرّساً لظاهرة تدلّ على مقاتلين من دول غير دول محل الصراع، وستعلن جريدة "التايمز"، عام ١٩٨٨؛ أنّ المجاهدين، رفقة "المقاتلين الأجانب"، قد أحرزوا النصر.
إضافة إلى ذلك؛ يمكننا أيضاً أن نلمس وضوحاً أكبر في مصطلح "المقاتل الأجنبي" مع ما يمكن أن نطلق عليه اسم "منعطف الحادي عشر من سبتمبر"؛ حيث ستبزغ ظاهرة جديدة مع تدمير البرجين العالميين على يد تنظيم القاعدة، وسيكون الجهاد معولماً، وسيدشّن ما يسميه الباحث النرويجي المتخصص في ظاهرة الجهاد، توماس هيغهامر "الجهاد العالمي".
يعني "الجهاد العالمي"؛ الانتقال بظاهرة الجهاد والحرب من أفق محلي إلى تدويل الجهاد، مما يجعل له طابعاً أممياً، وينضم تحت لوائه مشايعون من بلدان كثيرة، كما رأينا سابقاً في حالة القاعدة، وحالياً مع داعش، التي وصل الانضمام لها إلى ١٢٠ دولة، كما سبق ذكره.
تحتلّ مسألة المقاتلين الأجانب في تنظيم داعش مكانة ذات أهمية من الناحية السياسية والإستراتيجية

لحظات فاصلة
سنحاول في هنا تقديم تواريخ بمثابة محطات فاصلة في تاريخ ظاهرة المقاتلين الأجانب، تساعد سريعاً في التقاط خيط تطوّر هذه الظاهرة.
1. اللحظة الأفغانية (١٩٧٩): حيث تدخّل السوفييتيون لمدة عشرة أعوام في أفغانستان، دعماً للحكومة الأفغانية ضدّ التمرد الذي كان قائماً ضدّها، مما استجلب عدداً كبيراً من المقاتلين الأجانب، وكان الداعي والداعم الأكبر لحملة المقاتلين الأجانب ضدّ السوفييت الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان والمملكة العربية السعودية ومصر، أما بخصوص عددهم؛ فالإحصاءات متضاربة، وتميل الرواية العامة إلى كونهم أربعة آلاف شخص، سيطلق عليهم فيما بعد "الأفغان العرب".
2. اللحظة البوسنية (١٩٩١): وهي اللحظة التي حمل فيها صرب البوسنة السلاح في وجه مسلمي البوسنة، رفضاً للانفصال، مما أدّى إلى توافد مقاتلين أجانب كثر من أفغانستان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتمّ تحويل الصراع البين قومي إلى صراع جهادي عالمي.

هناك حاجة ملحّة عربياً لفتح نقاش بخصوص العائدين العرب وسياسات التعامل معهم

3. اللحظة الشيشانية (١٩٩٤): وهي اللحظة التي قامت فيها حرب روسية-شيشانية، انتهت فعلياً باستقلال الشيشان عن روسيا، رغم التعقيد الذي اكتنف الجغرافيا الشيشانية من حيث الوصول؛ إذ اعتقل الظواهري على حدود داغستان على يد القوات الروسية، وهو يحاول النفاذ إلى الشيشان، إلا أنّ هناك تدفقاً كبيراً من المقاتلين الجهاديين العرب وغيرهم سيصلون إلى هناك، وسيتدفق تمويل إسلامي كبير إلى الشيشان، كـ "جهاد" ضدّ الأعداء.
4. لحظة 11 أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١: في 11 أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، سيتوّج تنظيم القاعدة عمله بإطلاق صواريخ على برجي التجارة العالميَّين في الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا ستكون القاعدة قد وضعت مسألة "الإرهاب" على مصاف أولى المهمات التي ستقوم الحكومات العالمية والعربية بالانتباه إليها ومحاربتها.
الجهاد العالمي في هذه اللحظة ستنجم عنه سياسات كبيرة في العالمين؛ العربي والغربي، فيما يخصّ تدشين مدارس لتعليم إسلام "غير متطرف"، ولظهور فكرة الإصلاح الإسلامي في المنطقة العربية والانخراط في المشروع الأمريكي لمحاربة الإرهاب الكوني.

اقرأ أيضاً: المقاتلون الأجانب: الجهاد في عصر مُعولم
5. اللحظة السورية (٢٠١١):
رغم أنّ هناك لحظة سابقة للحظة السورية، ألا وهي غزو العراق في ٢٠٠٣، إلا أنّ اللحظة السورية ستكون بمثابة الحلبة الأوسع التي سيتوافد إليها خلايا تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، بكلّ التشكلات والمسارات التي خاضها التنظيمان، وسيشهد العالم، للمرة الأولى، تدفّق مثل هذه الأعداد من "المقاتلين الأجانب"، إلى حدّ، كما أشرت سابقاً، أنّ العدد وصل إلى ما يقارب ٤٠ ألف مقاتل من ١٢٠ دولة.
وإذا كان تنظيم القاعدة قد قام بالأساس على محاربة "العدو البعيد" (أمريكا وحلفاؤها)؛ فإنّ تنظيم داعش سيقوم على محاربة "العدو القريب" (متمثلاً في الأنظمة المحلية وغير المسلمين والشيعة، ...إلخ)، للتوسعة فيما يخصّ العدو القريب والبعيد، يمكن مراجعة أعمال حسن أبو هنية، الباحث المتخصص في الجماعات الإسلامية، لا سيما كتابه "الجهادية العربية".
وبعد التكريرات العالمية بهزيمة التنظيم، إلا أنّ داعش يموضع نفسه خارج السياقات العربية، ويقوم بشنّ هجمات في عواصم ومدن أوروبية ما تزال تجعل القلق بشأنه قائماً وسبل محاربته أول مهمات للحكومات العربية والغربية.

ما الذي يدفع شاباً للتطرف؟
تثير مسألة المقاتلين الأجانب الآن في المقاربات البحثية والدولتية المتعلقة بمسائل الأمن والإرهاب أسئلة أكثر أساسية فيما يخص: لماذا يذهب شاب أوروبي إلى بلد كسوريا لـ "الجهاد" مع تنظيم عنيف وراديكالي كداعش؟ ما الدافع وراء هذا الفعل؟ وكيف قام به؟ وما الخلفيات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أنتجت مثل هذا الفعل؟ والسؤال الأهم: كيف لمن يعيش في بيئات علمانية، في دول أوروبية، أن يذهب للانضمام إلى القتال دون مقابل، أو في أحسن الأحوال مقابل رواتب زهيدة؟ ما هذه الرغبة في "الجهاد" أو الموت؟

اقرأ أيضاً: المقاتلون الأجانب... إرث يُقلق الدول
لكن لا بدّ من الملاحظة أنّ السؤال بخصوص الشاب القابل للتطرف، أو المتطرف فعلياً، هو في الوقت الراهن لا يتعلق بمكان محدد، وإنما بطبيعة عابرة للدول للحرب والجهاد؛ فقد مكّن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من خلق ما يمكن تسميته بـ "جهاد شبكي"، ورأينا كيف توظّف داعش التكنولوجيا الحديثة والإنترنت في بثّ أفكارها، وتقديمها، وكأنّها معرض، وسوق دينية كبيرة.
بالطبع، كانت الإجابات على هذه الأسئلة في الفضاء البحثي منقسمة إلى ثلاث إجابات، سنحاول إيجازها:

لا بدّ من وجود تدابير إستراتيجية لأسئلة الدين والسياسة والهوية لتجنيب العالم هذا العنف

1- الإجابة الاقتصادية: باختصار، تسعى هذه الإجابة إلى القول إنّ هؤلاء الشباب يعانون من حرمان اقتصادي وفقر مدقع وإحباط، فيما يخصّ أوضاعهم المعيشية، دفعتهم إلى الانخراط في حرب لا تمثل لهم أية قيمة؛ أي إنّها مقاربة تفسّر ظاهرة الردكلة العنيفة التي يدخل فيها الشاب، ويترك بلده (سواء الأم/ أو المهاجِر إليها) من خلال النظر إلى الظروف الاقتصادية الحاكمة لحياة هذا الفرد.
فكما يحاجج الباحثان الكبيران؛ لورن داوسون، وأمارناث أماراسينغام، فإنّه "لا توجد علاقة قوية بين التهميش أو ضعف الاندماج وبين التوجه نحو التطرف كما يفترض عادة؛ فعلى سبيل المثال: دعت دراسة ميدانية جديدة حول المسلمين في أوروبا الغربية إلى مساءلة العلاقة بين التوجه نحو التطرف، وتبني معتقدات دينية أصولية، وضعف الأحوال الاجتماعية الاقتصادية.

اقرأ أيضاً: المقاتلون الأجانب مع "داعش": تهديد يعود إلى الواجهة
وجد الباحثون أنّه "بشكل عام، كان المبحوثون من العائلات الأكثر رفاهية يميلون أكثر لممارسة إسلام يرتبط بشكل كبير بالأصولية، فهم أكثر محافظة تجاه الأدوار الاجتماعية، ويسعون لتطبيق الشريعة في العالم كلّه، ويحتفون بالاتجاهات والمواقف المرتبطة بالإسلام الأكثر تسييساً، وإضافة إلى ذلك؛ كان الأفراد الذين يتبنّون هذه المعتقدات أكثر دعماً لاستخدام العنف لـ "الدفاع عن إيمانهم"".
هذه الإجابة/ المقاربة (approach) قد تمّ تحديها على نطاق واسع، وتمّ إثبات عدم صحتها ويمكن النظر، بهذا الصدد، إلى دراسة "جيمس بايازا"، الذي أثبت فيها أنّ العمليات الإرهابية التي في وقعت في حوالي ٩٦ دولة من ١٩٨٨ إلى ٢٠٠٢ لا تمتّ بصلة للنموّ الاقتصادي وعلاقته بالإرهاب.

2- الإجابة الدينية: هذه الإجابة مفادها باختصار؛ أنّ الخلفية الدينية لهؤلاء الشباب هي المتحكم في سلوكهم الانضمامي لجماعات إرهابية، كتنظيم داعش أو القاعدة، وبالتالي؛ لا بدّ من تقديم إسلام آخر، والقيام بالتعاطي الديني المختلف مع هذه القواعد المسلمة الموجودة في الغرب.
في الواقع؛ الإجابة الدينية تستند بالأساس إلى التفسير الثقافوي (Culturalist) للظاهرة الجهادية، لا سيما في النسخة الداعشية، وما يسمى في أدبيات الحقول المختصة بالإرهاب "الهجرة"؛ التي يقوم بها شاب في بلد غربي إلى مناطق صراع على أساس ديني.
ورغم أهمية المنظور الديني فيما يتعلق بظاهرة المقاتلين الأجانب، إلا أنّه جزء لا يمكن أن يفسّر الظاهرة، كما أنّه يخضع لأسئلة عسيرة لا بدّ فيها من الاستماع إلى المقاتلين أنفسهم: هل تربيتهم الدينية السالفة هي التي دفعتهم إلى الردكلة؟ هل العرض الديني الداعشي هو ما جذبهم؟ ولماذا جذبهم؟ وهل الانجذاب هو ديني كذلك، أم أنّ هناك أبعاداً اجتماعية واقتصادية ورؤيوية هي التي دفعتهم لذلك؟
أضف إلى ذلك؛ أنّ هناك تحدياً يواجه الإجابة الدينية الصرف يتمثل في أنّ ما أظهرته داعش؛ أنّ كثيراً من المقاتلين الأوروبيين المنضمين إليها كانوا في الماضي عازفين أو مغنين، أو لهم ماض علماني صرف؛ مما يضع الإجابة الدينية موضع تحدٍّ وتساؤل، ويجعل لهم حدوداً لا يمكن لها أن تخرج عنها، وبالتالي لا تستطيع وحدها أن تفسر المشهد.

اقرأ أيضاً: عودة "المقاتلين الأجانب" والانسحاب الأمريكي من سوريا.. هذه هي التحديات

3- الإجابة السياسية: أما الإجابة السياسية؛ فذات صلة بالإجابة الأولى (الاقتصادية)، ومفادها أنّ الحرمان السياسي وتفريغ هؤلاء الشباب من أيّ تمثيل سياسي كان الدافع وراء انجرارهم وراء الجماعات المتطرفة كتنظيم داعش؛ فالحرمان من التمثيل السياسي والتهميش من العملية السياسية يؤدي إلى الانجرار وراء التطرف، بالتالي؛ لا بدّ من فتح مجال سياسي لهؤلاء الشباب للانخراط في السياسة، لا سيما في عصر "لا سياسي" تسيطر عليه شعبويات يمينية كلّ مرماها الدفاع عن الأصالة والنقاء والهوية ورهاب الأجانب، دون إيلاء نظر جدّي للمشاكل السياسية-الاقتصادية التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة جراء السيرورة النيوليبرالية المعولمة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين؛ تلك السيرورة التي تزيد من الإفقار والبطالة العالمية، وتخلق تفاوتات طبقية، وتهميشات اجتماعية لشرائح كبيرة من الناس. في المقابل؛ تعطي الامتيازات لشرائح قليلة جداً وللشركات.
إلا أنّ هناك مقاربة أخرى، قام بها الباحث الفرنسي المتخصص في الجماعات الإسلاموية، أوليفيه روا(Olivier Roy) ؛ لتفسير هذه الأزمة في كتابه الأخير الجهاد والموت فيما يخصّ الشباب المنضمين إلى داعش، يقوم حجاج روا بالأساس على مفهوم "الأزمة الجيلية" التي وصفها، فيقول روا: إنّ هؤلاء الشبان يمثلون ما أسماه "المرحلة الثانية من الجهاد العالمي" التي كملت المرحلة الأولى متمثلة في القاعدة.
يحاجج روا بأنّ هؤلاء الشباب لديهم "رغبة عدمية" في الموت، فمن أجل التأكيد على الهوية، كان لا بدّ من تقديم الذات كقربان للتنظيم.
بالنسبة إلى أوليفيه روا؛ هؤلاء الشباب فاقدون للمعنى في حياتهم بشكل جذري، والبحث عن معنى هو سبب رئيس وراء انضمامهم للتنظيمات الجهادية؛ فالحداثة بما شظته من مجتمعات وذوات، خلقت حالة من اللامعنى التي تكسي الوجود البشري، وبالنسبة إلى متديّن فاقد للمعنى والهوية في مجتمع ما، فإنّ كلّ سعيه سيكون منصبّاً على "الحمائية" وحفظ الهوية، بالتالي؛ سيكون البحث عن تنظيم يمثل هذه الهوية (كتنظيم داعش)، بمثابة المعنى الذي يمكن، من أجل الحصول عليه، أن يقدّم بحياته في سبيله.

اقرأ أيضاً: الأردن وعودة المقاتلين الأجانب.. اتجاهات وسيناريوهات خطيرة
باختصار؛ يسعى حِجاج روا الأساسي والذي يمكننا تسطيره ههنا، منذ كتابه المهم "فشل الإسلام السياسي"، إلى أننا نشهد عملية أسلمة للراديكالية، وليس العكس، أي ردكلة للإسلام. فروا، الذي تعاطى مبكراً مع الحركات الإسلاموية، قد رأى منذ التسعينيات أنّ حركات الإسلام السياسي أصلاً (من الإخوان إلى القاعدة) هي حركات خارجة على التقليد العلمائي، وبالتالي هي تعمل خارج المؤسسة الدينية الرسمية، وتقطع معها، ومن ثم؛ يسحب روا حجاجه إلى تلك الموجة الثانية من "العدمية الإسلامية" التي تأتي، كما يقول ياسين حاج صالح في كتابه "أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده"، من حضور مفرط من المعنى، وليس من غياب المعنى.
داعش مثّل، فيما مثّل، طغياناً لحضور المعنى، في عالم يرزح تحت وطأة غياب المعنى، والحضور الكثيف للتكنولوجيا التي جردت الإنسان من أيّة بشرية محتملة، يمثّل الموت، كما يوضح روا، إغراء فظيعاً بالنسبة إلى جيل إسلاموي عدمي.

مقاربتان لمشكلة العائدين
كما أشرنا سابقاً؛ بعد إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش، عاد عدد كبير من المقاتلين الأجانب الأوروبيين إلى بلدانهم، مما أثار أسئلة أمنية في المقام الأول بشأن عودتهم، وأسئلة أخرى عن إمكانية إدماجهم من جديد في المجتمع بعد هذه الرحلة الراديكالية والعنيفة التي قاموا بها.
قضية أو مشكلة العائدين بالأساس هي ملحّة لسببين: أولاً؛ للخطر المحتمل من هؤلاء العائدين. ثانياً؛ في إمكانية من رجعوا عن ماضيهم العنيف إلى القيام بأعمال مشابهة مستقبلاً.
يمكن لنا أن نشير إلى مقاربتين معتمدتين في أوروبا للعائدين:
1- المقاربة الأمنية:(Security Approach) تقوم هذه المقاربة على الملاحقة والضبط والمطاردة للعائدين وزجّهم جميعاً في السجن، دون تفرقة، وهي مقاربة بالعموم، كما يشير تشارلز ليستر، سهلة ولا تتطلب سوى إستراتيجيات أمنية، لكنّ المقاربة الأمنية قد تأخذ، في بعض الأحيان، منحى ذا وجاهة، لا سيما، كما أشرت سالفاً، إلى أنّ تنظيم داعش ينقل هجماته إلى عواصم أوروبية، مما قد يثير الحفيظة الأمنية بأنّ هؤلاء العائدين يمكن أن يكونوا بمثابة نقاط إرشادية للتنظيم.

اقرأ أيضاً: هل أوقفت هزائم داعش انضمام المقاتلين الأجانب إلى التنظيم؟
وبالتالي؛ في حين أنّ المقاربة الأمنية قد تكون السبيل الأيسر لمعالجة مشكلة العائدين باعتبارهم مقاتلي حرب، وبمثابة تهديد للأمن القومي للبلدان العائدين إليها، إلا أنّها لا يمكن أن تحلّ المشكلة، بل ولربما فاقمت من راديكالية هؤلاء الشباب.
2- المقاربة الليبرالية:(Liberal Approach)  هذه المقاربة الليبرالية/ الإصلاحية/ الإدماجية على نهج أكثر حوارية وإصلاحية مع المقاتلين العائدين، والعمل بمقتضى أنّ المواطن في الدول الغربية، ذات الديمقراطية العريقة والتقليد القانوني الواسع، لا بدّ له من أن يعطى الفرصة للاندماج فرصة من أجل إعادة التأهيل والاندماج مرة ثانية، بالتالي؛ المقاربة الإدماجية هذه تقوم على التعاطي مع كلّ فرد على حدة، من حيث مدة سفره، والتعليم الذي تلقاه، إن كان قد قام بأعمال حربية أم لا، وبناء عليها يُنتهَج معه نهج يختلف عن مقاتل آخر.
باختصار؛ إنّ المقاربة الليبرالية تحاول أن تقوم بإصلاح نفسي وإعادة تأهيل اجتماعي للعائدين، مع بعد قانوني بامتثالهم إن ارتكبوا جرائم، من أجل إعادة إدماجهم في مجتمعاتهم مرة ثانية عن طريق إيجاد عمل لهم، ومعالجتهم نفسياً، وتوفير بيئة جديدة لهم.
المقاتلون الأجانب خرجوا من بيئات تدّعي دوماً أنّها قائمة على الحرية والفردانية وقيم الحداثة

العائد العربي: هل يمكن فتح نقاش؟
أشرنا إلى أنّ المقاتلين الأجانب في التنظيمات المتطرفة منهم مقاتلون عرب كثر، لكنّ مسألة العائدين لم تفتح بما فيه الكفاية في العالم العربي، والسياسات المطروحة على الأجندة العربية فيما يخصّ العرب المقاتلين هي سياسات "التجريم"؛ ففي حين أنّ الغربي العائد يمكن إعادة تأهيله، بسبب افتراض أنّه تمّ إغواؤه، إلا أنّ العربي العائد ما يزال التعامل معه على أنّه "إرهابي" فحسب، ولم يفتح الباب لإمكانية إدماج هؤلاء العائدين، وفق سياسات واضحة، إصلاحية وقانونية، يمكن أن يكون لها أكبر الأثر والنفع من سياسات التجريم والاعتقال والسجن التي قد تكون سبباً في جعلهم متطرفين أكثر.
إنّ ضرورة فتح نقاش عربي مثمر بشأن قضية "العائد العربي" تتمثل في تقديم مقاربات كثيرة لفهم طبيعة هؤلاء المنضمين، وتقديم رؤى معرفية وقانونية وسياسية (كما في الحقول المكرسة غربياً) للتعاطي مع هؤلاء، بعيداً عن المنطق الأمني الذي لا يحلّ شيئاً، أو يقدّم تفسيراً لظاهرة.
المقاتلون الأجانب بالعموم هي بالأساس ظاهرة، والظاهرة لا بدّ من أن تفهم وتعالج وتقارب أولاً: من ناحية فهم الجذور النفسية والاقتصادية والسياسية والدينية لها، وثانياً: من ناحية طبيعة التعامل معها للحدّ منها في المستقبل القريب والمنظور.
وبالتالي؛ هناك حاجة ملحّة عربياً من الجهات السيادية والنخب السياسية إلى فتح نقاش بخصوص العائدين العرب، وسياسات التعامل معهم، ومعالجة الأسباب الجوهرية لانضمامهم لتنظيمات راديكالية.
خلاصة القول: إنّ مسألة المقاتلين الأجانب لها جذور تاريخية، ومن أجل التعاطي معه على نحو سياسي وإستراتيجي صحيح لا بدّ من التنبه إلى المسائل المتعلقة بها، مثل مسألة الهوية والدين، والحرمان السياسي، وقضايا التهميش، بدلاً من المقاربة الأمنية الأحادية، وفي عالمنا اليوم، الجارف نحو شعبويات يمينية متطرفة؛ لا بدّ من وجود تدابير إستراتيجية لأسئلة الدين والسياسة والهوية لتجنيب العالم أكبر قدر من ظواهر عنيفة مثل هذه؛ حيث يجد الأفراد في بيئاتهم المحيطة كيانهم الاجتماعي والهوياتي والديني والثقافي السليم، حتى لا يكون البديل العنيف والراديكالي هو المتاح أمامهم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية