هل تمكّنت الاجتهادات النسوية من تجاوز موروثات صورة المرأة؟

هل تمكّنت الاجتهادات النسوية من تجاوز موروثات صورة المرأة؟
النسوية الإسلامية

هل تمكّنت الاجتهادات النسوية من تجاوز موروثات صورة المرأة؟


26/10/2023

النسوية الإسلامية، أو تيار المساواة بين الجنسين، كما تفضّل أن تسميه كثيرات من المنتميات إليه، تنطلق للبحث عن حقوق المرأة وعن المساواة بينها وبين الرجل من داخل الإسلام نفسه، كما أنّها نسوية إسلامية؛ لأنّها ترفض تلك الصورة التي رسمت للمرأة في مخيال الذكر المسلم، من خلال قراءات في المسار التاريخي للإسلام، دون أن يراعي حَمَلة هذه التصورات أنّ العقل الإسلامي هو مسار تاريخي محكوم بتاريخانية الزمان والمكان.

أثقال الماضي تحاصرنا
يرتبط التصور العربي للمرأة بما سمّي "الإسرائيليات"، أو لنقل هنا "الميث اليهودي"، وبكلّ ما نقله لنا التقليد اليهودي، وبنظرته الدونية التي حولت كلياً مكانة المرأة من رمز للحياة إلى خطيئة يطالها الإثم والتجريم، ومن أصل إلى فرع يلحق به النقص.

مختلف التصورات التي وصلتنا من عهود العبودية وتعبر عمّا بقي من أفكار الجاهلية لم تعد تناسبنا

إنّ مختلف التصورات التي انتقلت لنا من عهود العبودية، وجاءتنا من التقليد اليهودي، وما أضيف لها من ميراث عرب شبه الجزيرة العربية، قبل الإسلام وبعده، وما نقله الرواة والفقهاء والمفسّرون وروّجوا له من أقوال خدمت مصالحهم وعكست نزاعاتهم، وعبّرت عمّا بقي في نفوس بعضهم من أفكار الجاهلية، لم تعد تناسبنا في عصرنا هذا، وقد قضى عليها العلم الحديث بالدليل، لكنها ما تزال تعشّش في مخيال المسلم، وما يزال وعيه يحملها تجاه المرأة ويزداد الوضع حين تظهر حركات الإسلام السياسي التي تعمل على تغذيتها، والتي تجعل المرأة خصمها الأول ومعيقها في طريقها نحو أسلمة الحكم وأسلمة المجتمع.

اقرأ أيضاً: النسوية الإسلامية والسينما: هل ارتقى الفن السابع بقضايا المرأة؟

فهل يمكن للمرأة اليوم أن تكشف بطلان تلك النصوص التراثية والمرويات التي تحدثت عنها، التي استمدت مقولاتها من "الميث اليهودي" وغيره؟ وهل في مقدورها أن تجتهد على النصّ التأسيسي وتدخل بمنهجية نقدية على تلك النصوص الدينية التي عالجت وضعيتها وحددت حقوقها، من زواج وطلاق وميراث، لتقول هنا إنّ تلك النصوص عالجت وضعيات تاريخية معينة لا يمكن أن تكون أحكامها مطلقة؟ هل صورة المرأة في الخطاب الديني وفي الموروث الاجتماعي جعلتها تفكر في الاقتراب من معالجة ودرس ذلك المفهوم للمقدس الديني ورفض أحكامه؟
على خطى قاسم أمين رأى سمير عبده أنّ صلاح المجتمع لا يكون إلا بصلاح حال المرأة

نحو قراءة جديدة
لم يقتصر تيار النسوية الإسلامية، أو التيار الداعي إلى المساواة بين الجنسين، على النساء وحدهنّ؛ بل كان هناك من الرجال من كانوا سبّاقين إلى المطالبة بتحرير المرأة، وإعادة النظر في وضعيتها ومساواتها مع الرجال، ورفض خطاب اللامساواة؛ فمثلاً نشر قاسم أمين، العام 1899، كتاباً بعنوان "تحرير المرأة"، تحدّث فيه عن الحجاب، وعن تعدّد الزوجات، والطلاق، وغيرها من القضايا التي تخصّ المرأة، فدعا إلى إصلاح وضع المرأة وتغييره، وهو الذي ربط بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة، وبين ارتقاء المرأة وارتقاء الأمة، ليقول: "في البلاد التي ارتقت إلى درجة عظيمة من التمدّن نرى النساء قد أخذن يرتفعن شيئاً فشيئاً من الانحطاط السابق، وصرن يقطعن المسافات التي كانت تبعدهنّ عن الرجال".

اقرأ أيضاً: النسويّة الإسلامية.. تطلّع نحو المساواة أم ضرورة سياسية؟

أما في المجتمعات العربية الإسلامية؛ فإنّ النظرة إلى صورة المرأة لم تتغير، وفي هذا قال في مؤلَّفه "المرأة الجديدة" الذي جاء بعد عام من مؤلَّفه السابق، وعرض فيه لأفكاره نفسها، الداعية لتحرير المرأة: "المرأة في نظر المسلمين على الجملة ليست إنساناً تاماً، وإن الرجل منهم يرى أنّ له حقّ السيادة عليها، ويجري في معاملته معها على هذا الاعتقاد".
ومِن الكتّاب المحدثين الذين دافعوا عن بعض القضايا التي تخصّ المرأة؛ المستشار محمد سعيد العشماوي، الذي كان أكثر ما ناقشه موضوع الحجاب، والذي عدّه العشماوي عادة اجتماعية لا فرضاً دينياً، وهو الذي قال في كتابه "حقيقة الحجاب وحجية الحديث": "من أسوأ الأمور أن يختلط الفكر الديني والتعبير الشرعي بالموروثات الشعبية (الفولكلور) والمواضعات الاجتماعية (التقليديات)، والعبارات الدارجة (المقولبات) "الكليشيهات"".   

 

الحجاب كشعار سياسي
وكان أن تحوّل الحجاب، مع حركات الإسلام السياسي، إلى شعار سياسي لهذه الحركات، ولنقل نحن هنا إلى رمز لهذه الحركات، كما في الجزائر؛ حيث لم يظهر الحجاب إلا مع بداية التسعينيات، وظهور حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أما قبل هذا التاريخ؛ فكانت بعض النساء يرتدين ملابس عادية، وبعضهنّ يضعن ما يعرف بالحايك أو الملحفة، وهي تشبه العباءة المصرية غير أنّها تأتي باللونين الأبيض والأصفر، مع كشف الوجه، أو تغطيته بما يعرف بـ "العجار"، وهو قطعة قماش صغيرة لتغطية نصف الوجه السفلي، ولم يعرف النقاب أو الجلباب أو الحجاب، بالشكل الذي هو عليه الآن.

اقرأ أيضاً: النسوية الإسلامية: حضور متزايد يُقيّد أفق المرأة
كما طالب نصر حامد أبو زيد بضرورة انعتاق المرأة من سلطة النصّ، ومن سلطة المجتمع، ومن السلطة الذكورية، التي رسمت صورتها، أو ما سماه "خطاب المرأة"، هذا الخطاب أورد وصفه بكتابه "دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة": "الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري، بمعنى أنّه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة / الأنثى، ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرجل / الذكر".

اقرأ أيضاً: فاطمة حافظ: ما يقدمه السلفيون من نسوية يسيء للإسلام

وعلى خطى أفكار قاسم أمين نفسها، رأى سمير عبده؛ أنّ صلاح المجتمع لا يكون إلا بصلاح حال المرأة؛ ففي كتابه "المرأة العربية بين التحرّر والتخلّف" يرى عبده أنّه "لا تتحقق مقولة التقدم والحرية وبناء مجتمع جديد قبل أن نعيد إلى نصف هذا المجتمع إنسانيته الكاملة"، غير أنّه رأى أنّ أكثر ما يعيق تقدم المرأة وتحرّرها، الذي وإن قطعت فيه أشواطاً كبيرة، تعود فيه للوراء، بمجرد ظهور الفكر السلفي للجماعات الإسلامية، وهو ما كان دعاه العشماوي "الإسلام السياسي"؛ فهنا يرى سمير عبده أنّ هذه النهضة النسائية تعود إلى التراجع حين ترتفع موجة الفكر السلفي.
يقظة النساء
    مناضلات كثيرات دعون لتحرير المرأة، أوائلهنّ: زينب فواز، وهدى الشعراوي، ونبوية موسى، ونظيرة زين الدين، عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، وغيرهنّ، ومن بين الأسماء التي عرفها تيار النسوية الإسلامية حديثاً: أمينة ودود، وأسماء بالاس، وإسراء نعماني، وأسماء مرابط، وليلى أحمد، وآمال قرامي، وخديجة صبار، وفاطمة المرنيسي، ونوال السعداوي، وأخريات.

اقرأ أيضاً: السينما النسوية السعودية تضع المجتمع أمام عيوبه
وكان من أهمّ القضايا التي شغلت التيار النسوي: مسألة المساواة في الميراث، وتعدّد الزوجات، والحجاب، وإمامة المرأة، والصلاة المختلطة، ورفض مقولة العصمة بيد الرجل، والقول بالمساواة بين الجنسين، وغيرها، وكان أهمّ ما اعتمدنه ووظفنه ودعون إليه؛ قيام التفسير النسوي للقرآن الكريم على طريقة المساواة بين الجنسين، غير أنّ ما هو مهمّ للطرح هنا: هل تمكّنت هذه الاجتهادات النسوية من تجاوز تلك الموروثات التي رسمت صورة المرأة، أم إنّها كانت قد استدعتها ولم تستطع العمل خارج حدودها فبقيت سجينتها تدور في فلكها وهي تتصوّر أنّها قد تحررت منها؟

 

 

كانت الدكتورة نوال السعداوي من أكثر النساء الداعيات إلى تحرير المرأة جرأة؛ فلم تتوقف يوماً عن دعوتها إلى انعتاق المرأة من ميثولوجيات عصور العبودية، ولا عن دعوتها إلى التمرد على مختلف السلطات الدينية والاجتماعية والذكورية التي كبّلت عقل المرأة وألغت وجودها؛ ففي كتابها "الأنثى هي الأصل"، أكّدت طرح قاسم أمين في أنّ تحرير المرأة هو تحرير للمجتمع ككل، لتضيف هي هنا أنّ طبيعة المرأة البيولوجية وطبيعتها الفسيولوجية ليست هي التي تكبّلها، كما يروَّج لهذا الفكر المناهض للمرأة، بل الموروثات والأعراف والتقاليد البالية والسلطة الذكورية والتفسيرات والقراءة الفقهية للنصوص الدينية هي التي تكبلها، وهذه الموروثات هي التي جعلت من مختلف القيم التي تحكم الذكور ليست هي نفسها التي تحكم الإناث، لتكون المرأة هنا خاضعة للمصير الأنثوي الذي فرضه الله والمجتمع.
أضحية على محراب الأساطير
من بين أكثر من عالجن موضوع الإسلام والمرأة؛ الباحثة المغربية خديجة صبار، التي عرضت لأحوال المرأة استناداً لما جاء به الموروث الإسلامي، المرأة التي تمّ عزلها عن الحياة العامة لتكون فقط لبيتها وزوجها، وليتمّ إبعادها عن أيّ نتاج معرفي حضاري.

لم تخرج الكتابات والاجتهادات النسوية عن إطار المقدس الديني وظلت قراءات سلفية ماضوية

أما هويتها فقد تشكّلت، كما عبّرت عنه خديجة صبار بـ"الفضاء الأسطوري"؛ ففي كتابها "المرأة بين الميثولوجيا والحداثة"، أوضحت أنّ  تلك الهوية المُشكَّلة هي التي تشكل الإطار المرجعي المؤسس لاضطهادها التاريخي، الذي تضرب جذوره في أعماق أعماق الأساطير.
كما وجّهت المفكرة المغربية، فاطمة المرنيسي، قلمها لخدمة قضية تحرير المرأة، لتكون مشروعها الفكري الذي حملته؛ إذ أرجعت سبب اضطهاد المرأة في المجال العام لتلك التفسيرات والقراءات التي أطلقها الفقهاء، وردّدها شيوخ الدين، ملصقين أقوالهم بالإسلام؛ ففي كتابها "الحريم السياسي"؛ كان أول ما بدأت به هو طرح سؤال استفزازي مرفوض من طرف فقهاء ومشايخ الدين: "هل يمكن لامرأة أن تقود المسلمين؟"؛ وهذا ردّاً على الحديث المشهور والمتداول: "لم يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، فعادت هنا لبحث الوضعية الاجتماعية والنفسية التي عايشها بعض رواة الحديث، خصوصاً أولئك الذين روّجوا لأحاديث تخصّ النساء، وهنا كانت من المهتمات بالأدبيات الفقهية أكثر من غيرها، وهذا فضحاً لزيف تأويلات الفقهاء وكذب أقاويل المحدثين.

اقرأ أيضاً: كيف أصبحت النسوية المعاصرة ذراعاً خفياً للنظام الرأسمالي الذكوري؟

إنّ منظومة العلاقات التقليدية بين الجنسين التي رسختها النصوص الدينية من جهة، والعادات والتقاليد من جهة أخرى، زكّتها أكثر النصوص الدينية، فكان التراث الفقهي الإسلامي، مثلاً، ذكورياً بامتياز، ولعلّ أبرز ما يواجهه الاجتهاد النسوي اليوم؛ ذلك الهجوم العنيف، وتلك الاتهامات العديدة، مرة بالانحلال الأخلاقي، ومرة بالفشل العاطفي والاجتماعي، ومرة بالعمالة والدعاية للأفكار الغربية، ومرة بالكفر والردّة، وغيرها من الاتهامات والنعوت، وهذا كلّه أثّر في نجاح الخطاب النسوي في التأسيس لقطيعة مع التصورات التقليدية للمرأة، وبالتالي إقصاء هذا الخطاب، وإعادة إنتاج التصورات السابقة نفسها عن المرأة، اجتماعياً وإعلامياً وأكاديمياً، وهنا تعطَى المهمة للمشتغلين على الدين، فلا يوجد من يعيد إنتاج مقولات التخلّف، بكلّ أنواعها، غير فقهاء ومشايخ الدين، ودعاة وأنصار الحركات الإسلامية.
فاطمة المرنيسي

الغرق في الماضوية
لم تخرج الكتابات والاجتهادات النسوية عن إطار المقدس الديني، أو لنقل "النصّ الديني"؛ بل كانت قراءات "سلفية" و"ماضوية"، تعود دوماً للماضي، وتنتقل من التراث في البحث عن ذاتها ووجودها، وتعمل، في الوقت نفسه، على تكييف النص مع الواقع الحداثي، فأين هو تحررها هنا، إن كانت ترى تقدّمها في الرجوع إلى الماضي والعودة دوماً للخلف، لتستند إلى ما حمله ذلك الماضي نفسه، ولا تخرج عن قراءاته وتأويلاته، محاولة جعلها تتماشى مع الواقع ومتكيفة مع الحداثة؟

لم يقتصر تيار النسوية الإسلامية على النساء بل كان ثمة رجال سبّاقون إلى المطالبة بتحرير المرأة

هي بهذا لم تشتغل خارج إعادة قراءة وتأويل النصّ واستدعائه، والدعوة إلى قراءة جديدة له؛ حيث خروج المرأة للعمل لا يعني تحررها، وتعليم المرأة لا يعني تحررها، وحتى الاستقلال المالي والتمكين الاقتصادي للمرأة، أو مشاركتها السياسة لا يعنون تحررها، إنّ التحرر الحقيقي للمرأة؛ هو في تحررها من تلك الصورة التي رسمت لها في الميثولوجيات والأديان والمرويات، وتحرّرها الحقيقي كذلك يكون على مستوى الأعراف والعادات والأذهان.
فإن كانت النظرة الاجتماعية والذكورية والدينية لم تتغير بعد؛ فإنّ المرأة لم تتحرر بعد، وما تزال سجينة تلك الصورة، المطلوب هو أن تتحرّر القراءات النسوية من سلطة العادات والأعراف والأساطير، التي رسمت لها صورتها، وأن تتحرّر من سلطة النصوص الدينية التي أعطت لكلّ تلك الميثولوجيات طابع الثبوت والصحة، إنّ البحث عن المساواة من داخل المرجعية الإسلامية نفسها، دون التحرر منها وتجاوزها، يبقى بحثاً عن ذات مسجونة بالرضوخ لتلك المرجعيات نفسها، وباستدعائها في كلّ مرة، وفي بحث تلك القراءات والاجتهادات النسوية عن الشرح والتدليل؛ فإنّها لن تخرج عن إطار التبرير، ولا عن ممارسة الإرضاء، وستقع مرة أخرى في فخّ التوفيق بين النقل/ العقل، الماضي/ الواقع، النصّ/ العلم، وهذا سيعطي كذلك الفرصة أكثر لتلك السلطات المناهضة للمرأة في أن تجد نفسها تتمظهر في خطاب من نوع آخر هذه المرة؛ هو خطاب نسوي حداثي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية