المجانين مرضى أم متمردون و ساخرون و حالمون؟

المجانين مرضى أم متمردون و ساخرون و حالمون؟


04/12/2018

"إذا أردت أن ترى مجنوناً، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة". تشير هذه الحكمة التي انتشرت في القرن السابع عشر إلى بقاء الجنون خلال ألف سنة ماضية وأكثر، رهناً للسحر والتشرد والهرطقة ورجال الدين أحياناً، خلال التاريخ الأوروبي، حيث كان يتم تعريف الجنون والتحكم به وفقاً لمصالح محددة، أو يتم إخفاؤه واعتباره داءً خبيثاً يمكن أن ينتقل بالعدوى!

اقرأ أيضاً: محمد المهدي المجذوب.. جنون شاعر وزهد صوفيّ

من جهتهم، تعامل العرب مع الجنون قبل الإسلام وبعد انتشاره، بصورةٍ أكثر رفقاً وخفة، فجعلوه موضوعاً يمكن علاجه، ولا يقتصر سوى على صاحبه، كما أنهم ضمنوه في الشعر والأدب والنوادر، ولم يتجنوا على المجانين غالباً، لكن هذا لا يمنع أنّ للجنون تاريخه المثير، منذ عباقرة اليونان وحتى عصرنا الحالي، فكيف تشكل الجنون في الوعي البشري إذن؟

صف الحمقى الطويل

في الأصول اللاتينية للكلمة، تعود كلمة مجنون "follis" إلى معنى محدد، وهو الكيس أو البالون المنفوخ الذي تتقاذفه الرياح في كل اتجاه. فيما يشير الاصطلاح إلى فقدان العقل، ووجود مرضٍ ما نفسي أو عقلي، يحول دون سيطرة المرء على توجهاته.

بيّن المفكر الفرنسي فوكو كيف تم استغلال الجنون سياسياً إذ كانت تهمة الجنون تنفي صاحبها وتفقده ثروته لصالح السلطة

وقديماً، اعتبر اليونان أنّ الجنون هو "مرض الروح" التي تتوه وتضيع، بينما سبقهم الفراعنة في الظن أن "القلب هو مركز كل شيء، لذا فهو مركز النسيان والضياع والجنون إذا سكنته قوة شيطانية أو مس" وفقاً لما يذكره المؤرخ الفرنسي والخبير النفسي كلود كيتيل في كتابه "تاريخ الجنون".

ويضيف كيتيل في كتابه المترجم عن مؤسسة "هنداوي" في 2012، أنّ "الجنون لم يكن مرضاً يقتضي علاجاً طبياً، بل ظل في إطار السحر والمس، وكان يتم أحياناً ممارسة طقوسٍ دينية من أجل محاولة التخلص منه".

ولم تترك الأساطير والسير القديمة منذ عهد اليونان والإغريق الجنون، إلا وضمنته ضمن نصوصها أيضاً، إذ عدّ في حينه "عقاباً إلهياً لكل من يصيبه الجموح والغطرسة خلال سعيه لطموحاته وأحلامه أو شهرته".

قديماً كان الجنون مساً شيطانياً أو عقاباً إلهياً يصيب الروح لا الجسد

العرب القدماء بدورهم، ضمّنوا الجنون في نصوصهم الشعرية مثلاً، فدل على الهوى والحب والعشق، كما دل على التمرد وعدم الاهتمام بالمسؤولية، وامتد هذا التفكير حول الجنون منذ ما قبل الإسلام، وإلى ما بعد انتشاره، ولم يكن العرب القدماء يصنفونه على أنه مسّ، وفق دراسةٍ نشرت على موقع "العربية" في 2017 بل يرون فيه "مرضاً سببه نقصٌ في التغذية الصحيحة". وفي صدر الإسلام ظهر أطباء مسلمون متفوقون كالرازي، وكتابه "الحاوي في الطب" فوصفوا الجنون على أنه "مرضٌ ذاتي ونفسي، وقد توصل الطب العربي في العصرين الأموي والعباسي إلى علاج (المجانين) بوسائل مختلفة تشمل الاهتمام بهذه الفئة بطرق عديدة ابتداء من غسل أجسادهم بالماء في الصباح، والمشي والتنزه واشتمام الزهور الطبيعية في الحدائق التي ترفق بمستشفيات خاصة (بيمارستانات)، كذلك استخدمت الموسيقى في العلاج".

اقرأ أيضاً: دراسة: المتباهون عبر وسائل التواصل الاجتماعي مرضى بالغرور

وبتقدم الزمن، أخذ الجنون يأخذ حظوته في أوروبا أكثر من أي مكانٍ آخر؛ لأن القرون الوسطى شهدت بحسب كيتيل "تعريفاتٍ عديدة دينية له، فهو ناتج عن الحزن والضعف والضياع وعدم الإيمان، وهو مرض معدٍ، ويصاب به المهرطقون أيضاً". وربما أنّ اتهام العالم الإيطالي جيوردانو برونو بالجنون، ومحاكمته وقتله ظلماً، وكذلك من بعده كوبرنيكوس، وغيرهما، ومن قبلهما المفكر اروماني كولا دي ريانزو، عنى بكل الأحوال، أنّ الجنون في لحظة ما، يصبح جريمة في حال تم ربطه بالتجديف ضد الدين في أوروبا، ولا يعود المجنون مجرد فردٍ غير مسؤولٍ عن تصرفاته وأملاكه، ويحتاج إلى رعايةٍ أو يتعرض للإهمال.

ومنذ القرون الوسطى، صارت لفظة الحمقى تنوب عن لفظة المجنون، وأصبح الأحمق عرضة للتشرد أو السجن أو الإهمال، أو المحاكمة، أما علم الطب، فلم يتمكن حتى ذلك الحين، من وضع يده على الحمقى. ومحاولة معالجتهم.
ليس للأحمق من يساعده

تعاملت الكنيسة مع الجنون قديماً على أنه مسّ شيطاني وعقاب إلهي ومرض معد لكل من يخالف تعليمات الإله

المفكر الفرنسي المعروف ميشيل فوكو، يعد أول من عمل على تاريخ الجنون من وجهة نظر السياسة والمجتمع، واستطاع تأطير تاريخ الجنون دارساً إياه انطلاقاً من فرنسا العصور الوسطى، كاشفاً عن معلوماتٍ وتحليلاتٍ مثيرة، جعلت كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" مرجعاً عالمياً للقراء والدارسين.

يتحدث فوكو في كتابه عن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكيف تم بناء مستشفياتٍ عامةٍ رسمية خلالهما في فرنسا، من أجل السيطرة على الجنون ودراسته، وتحديده وفق مواصفاتٍ وتجارب علمية، وإيجاد أدوية وعلاجات له، وبالتالي"سيطرة السلطة على الجنون ومعناه".

اقرأ أيضاً: مرضى الحنين العُضال: هل تذكرون مضافة الحاج مازن؟

ويعيد فوكو بداية مستشفيات المجانين، إلى تلك التي ضمت قبل ذلك المصابين بمرض "الجذام" الذي نال نصيباً كبيراً من الاهتمام في أوروبا لأنه يعكس "غضب الله على خلقه العاصين" كعقاب، وبمجرد تراجع المرض من أوروبا، حل محله الجنون، الذي أفاد الحكام، وبعض النبلاء في الاستيلاء على ثروات الآخرين، حيث "كانت المدن يتم إخلاؤها من المجانين، وعزلهم ومحاولة تطهيرهم من الأرواح والأمراض، ثم ابتدع المتنفذون سفينة الحمقى، التي تحمل هؤلاء بعد جمعهم، وتبقى تجوب بهم البحار، إلى أن يموتوا، وبالتالي يمكن لمن كانت له سلطة أو ثروة منهم، أن يصبح مآلها في يد المتنفذين والسلطة من ورائهم".

تغير تعريف الجنون مع الزمن وتغيرت النظرة لمن يعد من المجانين

ويتضح كم استفاد رجال الدين المسيحيين في القرون الوسطى ومعهم السلطة آنذاك من الجنون. واحتكار تعريفه وعلاجه. ومن الجدير بالذكر أنّ عبارة مجنون ظلت حتى اليوم، تطلق على شخصٍ معروفٍ أو غير معروف، غير مرغوبٍ فيه أو بطموحاته وأفكاره، حصل هذا مع وصف هتلر مثلاً بالمجنون. بينما استخدم الوصف للعباقرة كذلك، مثل آينشتاين.

وربما ظل المجانين أو الحمقى أو مهما كان لقبهم، عرضةً لأنواعٍ مختلفةٍ من الإقصاء أو الاستغلال حتى بدايات القرن التاسع عشر، فالأدب ظل يرمز لبعضهم على أنهم متمردون أو ساخرون أو حالمون كبار، أما الطب، فبدأ يتطور ويأخذ مكانته في "علاج الجنون؛ حيث ظهر الطب العقلي" كما يصفه الباحث والمؤرخ البريطاني روي بورتر في كتابه "موجز تاريخ الجنون".

غلاف كتاب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لـ ميشيل فوكو

ومنذ ذلك التاريخ، يتحدث بورتر عن وجود جمعياتٍ رسمية في أوروبا "تعتني بمن يسمون مجانين، وتدرس حالاتهم وتصنفها كالهستيريا أو الهوس أو فقدان العقل والسيطرة على الأعصاب، وصارت تسمى أمراضاً عقلية. ومن ثم يتم إيجاد العلاجات لها إن أمكن، وبعد ذلك البحث عن مسببات الجنون وراثياً واجتماعياً إن وجدت، كما ظهرت توجهات لإعفاء المجانين من أي تبعاتٍ لجرائمهم كذلك".

يعيد فوكو بداية مستشفيات المجانين إلى تلك التي ضمت قبل ذلك المصابين بمرض "الجذام" الذي يعكس "غضب الله على خلقه العاصي

ويشرح بورتر كيف أنه ومنذ ذلك الحين بدأ يتم تعريف الجنون وتشخيصه تبعاً لعوامل "بيولوجية وأخرى ذهانية، وغيرها ممن تتعلق بالطباع التقليدية للإنسان ووجود فصام وهلوسات من عدمها، مع الأخذ بعين الاعتبار، طبيعة الفرد وبيئته المحيطة، ومستوى ثقافته وتعليمه".

ورغم التقدم اليوم، في التصنيفات العديدة للهلوسة والفصام والاكتئاب،وغيرها من أعراضٍ ربما تعد جنوناً أو  لا، يبقى الإنسان عصياً على التأطير في تعريفٍ محددٍ للجنون يمكن الاتفاق عليه أو الاتفاق على أدويةٍ طبيةٍ أو حتى سحريةٍ (خزعبلات) ناجعة. غير أنّ تاريخ الجنون تم استثماره دينياً وسياسياً وثقافياً كذلك، خصوصاً في أوروبا.

اقرأ أيضاً: الاكتئاب يسبّب مرضاً يهدد حياتك.. هذا هو

وربما يقال عن الحالمين أنهم مجانين، وكذلك الأبطال، وبعض من يفكرون بطرقٍ غريبة عن إجماع مجتمعاتهم وعاداتها، أو أولئك الذين يرون ألماً ضمن اليأس، وقد عبر الأدب عن هؤلاء جميعاً، منذ أعمال المسرحي البريطاني شكسبير، مروراً بالأديب الروسي دويستوفكسي صاحب "الجريمة والعقاب"، وليس انتهاء بمسرحيين مجانين مثل أرتورو، أو شعراء مثل سيلفيا بلاث، لم تكن حالاتهم قابلةً للتصنيف، لم يكن ممكناً الحكم عليها على أنها "عبقرية أو موهبة أو جنون أو اكتئاب" بحسب ما يراه الطبيب النفسي المصري محمود شاكر، في كتابه "الأدب والجنون".

ويشير شاكر كذلك، إلى أنه ليس سهلاً تصنيف المجانين على أنهم مختلفون عنا تمام الاختلاف، بل ربما "إنهم لا يروننا ونحن لا نراهم". ولعل الجنون أو ما يسمى بالجنون، عصيٌ على التصنيف، وتكفي عبارة أحد أشهر المرضى العقليين في بريطانيا مطلع القرن العشرين، واسمه "رور وورك"، وكان قال: "لا يعرف نصف البشر، كيف يعيش نصفهم الآخر، هذا هو الأمر بكل بساطة".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية